فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (198):

قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان دعاء الجماعة أقرب إلى السماع من دعاء الواحد، نسق على ما قبله قوله: {وإن تدعوهم} أي يا من هم أضل منهم وأعجز {إلى الهدى} أي إلى الذي هو أشرف الخلال ليهتدوا في نصر أنفسهم أو غير ذلك {لا يسمعوا} أي شيئًا من ذلك الدعاء ولا غيره؛ ولما كان حالهم في البصر بالنسبة إلى كل أحد على حد سواء، قال مفردًا للمخاطب: {وتراهم} أي أيها الناظر إليهم {ينظرون إليك} أي كأنهم ينظرون لما صنعوا لهم من الأعين {وهم لا يبصرون} أي نوعًا من الإبصار، وما أشبه مضمون هذه الآيات بما في سفر أنبياء بني إسرائيل في نبوة أشعيًا: هكذا يقول الرب ملك إسرائيل ومخلصه: أنا الأول وأنا الآخر، وليس إله غيري.
ومن مثلي يدعي ويظهر قوته ويخبر بما كان منذ بسطت الدنيا إلى الأبد، والآيات القديمة تظهر للشعوب، فلا يفزعون ولا يخافون، ألم أسمعكم منذ أول الدهر وأظهرها لكم وأبين لكم الأمور وأنتم شهدائي أن ليس إله غيري، وليس عزيز منيع إلا وأنا أعز منه، لأن جميع الصناع الذين يعملون الأصنام إنما عملهم باطل وليس في أعمالهم منفعة، وأن الصناع الذين يعملونها هم يشهدون عليها أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تعلم، لذلك يخزي جميع صناع الأوثان المسبوكة لأن جميع ما صنعوا لا عقل له، فيجمعون كلهم ويخزون ويفتضحون لأن النجار نحت بحديده وهيأ صنمًا بمنقاره وسدده بقوة ساعده وجاع وعطش في عمله.
والنجار اختار خشبة وقدرها وألصق بعضها ببعض بالغراء وركبها وعملها كشبه الإنسان، أقام من الخشب الذي قطع من الغيضة كشبه رجل الذي نبت من شرب المطر ليصير للناس للوقود فعملوه لهم إلهًا وعبدوه وسجدوا له، الذي ينصفه خبزوا لهم خبزًا وشووا لهم لحمًا على جمرة وأكلوا وشربوا واصطلوا وقالوا: قد حمينا لأنا قد أوقدنا نارًا واصطلينا، والذي بقي منه اتخذوه إلهًا منحوتًا وسجدوا له وصلوا وقالوا: نجّنا لأنك إلهنا.
ولم يخطر على بالهم فكر أن يقولوا: إنا قد أوقدنا نصفه بالنار، وخبزنا خبزنا وشوينا على جمره اللحم وأكلنا، ولم يعلموا أن باقيه عمل منه صنم وسجدوا له، لأن قلوبهم متمرغة في رماده، وضلت عقولهم فلا يقدرون ينجون أنفسهم ولا يقولون: إن أيادينا عملت الباطل واتخذت الكذب، ثم قال: أليس أنا الرب منذ أول، وليس إله غيري ولا مخلص سواي، ادنوا إليّ يا جميع الذين في أقطار الأرض لتنجوا لأني أنا الرب وليس إله غيري، حلفت بيميني وأخرجت كلمة صدق ولست أرجع عنها لأنه لي تنحني كل ركبة، وبي يحلف كل إنسان ويقول: إنما البر بالرب، وإليه تدنو الأعزاء ويخزى جميع المبغضين، وبي يمتدح ويتبرر، بمن شبهتموني؟ وإلى من نسبتموني؟ بالضالين الذين أخرجوا الذهب من أكياسهم ووزنوا الفضة بالميزان واكتروا الصناع حتى عملوا لهم آلهة يسجدون لها ويحملونها على أكتافهم ويمشون بها ثم يصلون لها ويدعونها لا تجيبهم ولا تخلصهم من شدائدهم ثم يحملونها أيضًا ويردونها إلى مواضعها، اذكروا هذه الأشياء واعقلوا أيها الأثمة واخطروها على قلوبكم وتذكروا الأيام التي كانت من الابتداء، إني أنا الله الخالق وليس إله غيري ولا مثلي، فأنا أظهر العتيدات وأخبر بالذي يكون قبل أن يكون، وأثبت رأيي وأكمل إراداتي وهواي، وأدعو من في المشارق فيأتون أسرع من الطير، وأتاني الرجل الذي قد عمل مسرتي من الأرض البعيدة، لأني أنا إذا تكلمت بشيء فعلته.
أنا خلقت وأنا أخلق؛ وفي الزبور في المزمور الثالث عشر بعد المائه: إلهنا في الأرض، كل ما يشاء يصنع، أوثان الأمم ذهب وفضة عمل أيدي البشر، لها أفواه ولا تتكلم، لها أعين ولا تنظر، لها آذان ولا تسمع، وآناف ولا تشم، وأيد ولا تلمس، وأرجل ولا تمشي، ولا صوت بحناجرها ولا روح في أفواهها، فليكن صانعوها مثلها وجميع من يتوكل عليها- انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}.
فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام.
قلنا: المراد من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم: جبلان متناظران أي متقابلان، فإن حملناها على المشركين فالمعنى: أنهم وإن كانوا ينظرون إلى الناس إلا أنهم لشدة إعراضهم عن الحق لم ينتفعوا بذلك النظر والرؤية، فصاروا كأنهم عمي، وهذه الآية تدل على أن النظر غير الرؤية، لأنه تعالى أثبت النظر ونفي الرؤية، وذلك يدل على التغاير، وأجيب عن هذا الاستدلال فقيل: معناه تحسبهم أنهم ينظرون إليك مع أنهم في الحقيقة لا ينظرون، أي تظن أنهم ينظرونك مع أنهم لا يبصرونك، والرؤية بمعنى الحسبان واردة قال تعالى: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى} [الحج: 2]. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وإن تدعوهم} الآية، قالت فرقة: المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والهاء والميم في قوله: {تدعوهم} للكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصل لهم عن النظر والاستماع فائدة ولا حلوا منه بطائل، قاله السدي ومجاهد، وقال الطبري: المراد بالضمير المذكور الأصنام، ووصفهم بالنظر كناية عن المحاذاة والمقابلة وما فيها من تخييل النظر كما تقول دار فلان تنظر إلى دار فلان، ومعنى الآية على هذا تبين جمودية الأصنام وصغر شأنها، وذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآية على أن العباد ينظرون إلى ربهم ولا يرونه، ولا حجة لهم في الآية لأن النظر في الأصنام مجاز محض.
قال القاضي أبو محمد: وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكنًا من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستوليًا على عقولهها فأوعب القول في ذلك لطفًا من الله تعالى بهم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا}.
في المراد بهؤلاء قولان:
أحدهما: أنهم الأصنام.
ثم في قوله: {وتراهم ينظرون إليك} قولان:
أحدهما: يواجهونك، تقول العرب: داري تنظر إلى دارك، {وهم لا يبصرون} لأنه ليس فيهم أرواح.
والثاني: وتراهم كأنهم ينظرون إليك، لأن لهم أعينًا مصنوعة، فأسقط كاف التشبيه، كقوله: {وترى الناس سكارى} [الحج: 2] أي: كأنهم سكارى، {وهم لا يبصرون} في الحقيقة.
وإنما أخبر عنهم بالهاء والميم، لأنهم على هيئة بني آدم.
والقول الثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وتراهم ينظرون إليك بأعينهم ولا يبصرون بقلوبهم. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى} شرط، والجواب {لاَ يَسْمَعُواْ}.
{وَتَرَاهُمْ} مستأنف.
{يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} في موضع الحال.
يعني الأصنام.
ومعنى النظر فتح العينين إلى المنظور إليه؛ أي وتراهم كالناظرين إليك.
وخبّر عنهم بالواو وهي جماد لا تبصر؛ لأن الخبر جرى على فعل مَن يعقل.
وقيل: كانت لهم أعين من جواهر مصنوعة فلذلك قال: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ}.
وقيل: المراد بذلك المشركون، أخبر عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون}.
قال الحسن المراد بهذا المشركون ومعناه وإن تدعواإليها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم لأن آذانهم قد صمّت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون يعني ببصائر قلوبهم وذهب أكثر المفسرين إلى أن هذه الآية أيضًا واردة في صفات الأصنام لأنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون}.
تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في {وإن تدعوهم} هو للأصنام ونفي عنهم السماع لأنها جماد لا تحسّ وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز بمعنى أنهم صوّروهم ذوي أعين فهم يشبهون من ينظر ومن قلب حدقته للنظر ثم نفى عنهم الإبصار كقوله: {يا أبت لمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا}.
ومعنى إليك أيها الداعي وأفرد لأنه اقتطع قوله: {وتراهم ينظرون إليك} من جملة الشرط واستأنف الإخبار عنهم بحالهم السيىء في انتفاء الإبصار كانتفاء السماع، وقيل المعنى في قوله: {ينظرون إليك} أي يحاذونك من قولهم المنازل تتناظر إذا كانت متحاذية يقابل بعضها بعضًا وذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآية على أن العباد ينظرون إلى ربهم ولا يرونه ولا حجة لهم في الآية لأنّ النظر في الأصنام مجاز محض وجعل الضمير للأصنام اختاره الطبري قال: ومعنى الآية تبيين جمودها وصغر شأنها، قال: وإنما تكرر القول في هذا وترددت الآيات فيه لأنّ أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكنًا من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستوليًا على عقولها لطفًا من الله تعالى بهم، وقال مجاهد والحسن والسدّي: الضمير المنصوب {في تدعوهم} يعود على الكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصّل لهم عن الاستماع والنظر فائدة ولا حصلوا منه بطائل وهذا تأويل حسن ويكون إثبات النظر حقيقة لا مجازًا، ويحسّن هذا التأويل الآية بعد هذه إذ في آخرها {وأعرض عن الجاهلين} أي الذين من شأنهم أن تدعوهم لا يسمعوا وينظرون إليك وهم لا يبصرون فتكون مرتّبة على العلة الموجبة لذلك وهي الجهل. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى}.
إلى أن يهدوكم إلى ما تحصّلون به مقاصدَكم على الإطلاق أو في خصوص الكيدِ المعهود {لاَ يَسْمَعُواْ} أي دعاءَكم فضلًا عن المساعدة والإمدادِ، وهذا أبلغُ من نفي الاتباعِ، وقوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} بيانٌ لعجزهم عن الإبصار بعد بيانِ عجزِهم عن السمع وبه يتم التعليلُ فلا تكرارَ أصلًا، والرؤيةُ بصريةٌ، وقوله تعالى: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} حالٌ من المفعول، والجملةُ الاسميةُ حالٌ من فاعل ينظرون، أي وترى الأصنامَ رأيَ العين يُشبهون الناظرين إليك ويخيّل إليك بأنهم يُبْصِرونك لما أنهم صنعوا لها أعينًا مركبةً بالجواهر المضيئة المتلألئة وصوّروها بصورة مَنْ قلبَ حدَقتَه إلى الشيء ينظُر إليه، والحالُ أنهم غيرُ قادرين على الإبصار، وتوحيدُ الضمير في تراهم مع رجوعه إلى المشركين لتوجيه الخِطابِ إلى كل واحد منهم لا إلى الكل من حيث هو كلٌّ كالخطابات السابقةِ تنبيها على أن رؤية الأصنامِ على الهيئة المذكورةِ لا تتسنّى للكل معًا بل لكل من يواجهها، وقيل: ضميرُ الفاعل في تراهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضميرُ المفعولِ على حاله، وقيل: للمشركين على أن التعليلَ قد تم عند قوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُواْ} أي وترى المشركين ينظُرون إليك والحال أنهم لا يبصِرونك كما أنت عليه. وعن الحسن أن الخِطابَ في قوله تعالى: {وَأَنْ تَدْعُواْ} للمؤمنين على أن التعليلَ قد تم عند قوله تعالى: {يُنصَرُونَ} أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم، ثم خوطب عليه السلام بطريق التجريدِ بأنك تراهم ينظُرون إليك والحالُ أنهم لا يُبصرونك حقَّ الإبصار تنبيهًا على أن ما فيه عليه السلام من شواهد النبوةِ ودلائلِ الرسالةِ من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين. اهـ.